القدوم الى أمريكا

Layan Albaz lost her legs in an Israeli air strike in Gaza. To learn how to walk again, she had to travel more than 6,000 miles from everything she knew. The post القدوم الى أمريكا appeared first on The Atavist Magazine.

القدوم الى أمريكا
sme loan

INCREASE YOUR SALES WITH NGN1,000 TODAY!

Advertise on doacWeb

WhatsApp: 09031633831

To reach more people from NGN1,000 now!

sme loan

INCREASE YOUR SALES WITH NGN1,000 TODAY!

Advertise on doacWeb

WhatsApp: 09031633831

To reach more people from NGN1,000 now!

sme loan

INCREASE YOUR SALES WITH NGN1,000 TODAY!

Advertise on doacWeb

WhatsApp: 09031633831

To reach more people from NGN1,000 now!

بعد ان بُترت أرجلها في غارة جوية إسرائيلية على غزة، اضطرت ليان الباز أن تسافر أكثر من 6000 ميل بعيداً عن كل ما تعرفه لكي تتعلم كيف تمشي مجدداً. 

القدوم الى أمريكا

مجلة ذا اتافيست (The Atavist)، العدد 153


رنا ناطور هي صحفية ومنتجة فيديوهات حائزة على جوائز. نُشرت القصص التي انتجتها على برنامج ساعة الاخبار على بي بي سي (PBS Newshour)، وعلى الجزيرة بالإنجليزية، مور بيرفيكت يونيون (More Perfect Union)، واخبار سكريبز (Scripps News). كما نشرت كتاباتها في صحف كالغارديان (The Guardian) وفايس نيوز (Vice News). كما حصلت على ترشيح لجائزة ايمي مشترك لمساهمتها في حلقة خاصة لبرنامج نايتلاين (Nightline) بعنوان “الازمة في سوريا.” حازت مقالتها بعنوان “زوجة مُطلق النار” على جائزة من جمعية الصحفيين العرب والشرق اوسطيين.

ايمان محمد هي مصورة صحفية فلسطينية من غزة، تملك شغفا في التصوير ينبع من تراثها. بدأت مسيرتها من خلال توثيق الحياة تحت الاحتلال الإسرائيلي، وعرضت صورها في صحف الغارديان (The Guardian) ولو موند (Le Monde) وواشنطن بوست (The Washington Post) وغيرها من المنشورات، كما تم اقتناء اعمالها في المتحف البريطاني في لندن ومتحف هارن للفنون التابع لجامعة فلوريدا. وحصلت على زمالة تيد العليا عام 2019. كما نشرت سيرتها الذاتية المصورة بعنوان شقوق عدستي (The Cracks In My Lens) في عام 2022.

المحررة: سيوارد داربي
المخرج الفني: إد جونسون
محرر النسخ: شون كوبر
مُدققة الحقائق: ليلى حسان
المُترجم: عمار عوينة

Published in July 2024.


كانت دينا عساف تجلس في سيارتها المركونة خارج مطار اوهاير الدولي تترقب بينما يفتح باب صالة المطار ثم يغلق مرةً تلو الأخرى. وكانت قد سعت جاهداً مع زوجها بهاء للتحضير لهذه اللحظة لحد الإرهاق. وفي الكرس الخلفي للسيارة كانت بناتهم الثلاثة المفعمات بالحيوية يترقبن. البنات الثلاث سارة وسلمى وسرين كنّ قد وضعن علامة على هذا اليوم المنشود – السابع عشر من آذار /مارس 2024 – على الرزنامة قبل أسابيع عدة وكن سعيدات بقدوم هذا اليوم اخيراً. وكن يتدافعن كي يروا الأبواب بشكل أفضل وكل واحدة منهن كانت تأمل ان تكون اول من يلمح الشخص المُنتظر. هذا الشخص هو فتاة صغيرة مثلهم بلغت الرابعة عشرة من عمرها قبل ثلاثة أيام من وصولها. وحسبما قيل للأخوات إنها شخص غاية في الأهمية.

 الفتاة اسمها ليان الباز ذات الانف الدائري الصغير والصوت الخافت. معظم ما تعرفه عائلة عساف عن حياتها جاء من فيديوهات منشورة على الانترنت. في احدى المقاطع وصفت ليان فقدانها اثنتين من أخواتها وابنة اختها وابن اختها في غارة جوية إسرائيلية على غزة. كانت الفتاة تستخدم كرسي متحرك بسبب الإصابات التي تعرضت لها في القصف، والتي أجبرت الأطباء على بتر ساقيها. في فيديو اخر، صورته وكالة فرانس برس (Agence France-Press) بعد فترة قليلة من الغارة الجوية، ظهرت ليان ووجهها مُرقش بالحروق، تقول راجفةً وهي تتشبث بقناع الاكسجين بإحدى يديها “اُريدهم ان يعطوني أرجل حقيقية. لا اريد أطرافاً مزيفة.”

Read this story in English

ولكن، إذا تمكنت ليان من المشي مرةً أخرى فلن يكون هذا ممكناً الا باستخدام الأطراف الصناعية، وللحصول عليهم أتت للولايات المتحدة. عرضت مستشفى شراينرز للأطفال في شيكاغو، وهي مستشفى مختصة بطب العظام للأطفال عليها العلاج مجاناً. وبالرغم من كونهم غرباء تماماً عنها، إلا أن عائلة عساف فتحوا منزلهم لاستضافة ليان خلال فترة تلقيها العلاج.

سارة، أكبر بنات عائلة عساف، تبلغ من العمر 12 عاماً، مما يعني ان دينا وبهاء لديهم خبرة مباشرة في التعامل مع فتاة مراهقة تمر بدوامة من التغيرات. ولكن بالإضافة لهذه التغيرات كانت ليان تصارع اصابتها بعجز دائم وفقدانها لأحبائها على مدار أشهر من الحصار الإسرائيلي الوحشي على غزة، كما شهدت فظائع لا يراها إلا الجنود على جبهات القتال. لم تتوهم دينا ان استضافة ليان ستكون سهلة ولكنها اخبرتني: “لكني توقعت أكثر حزناً نوعاً ما.”

وعندما خرجت ليان من أبواب مطار اوهاير اخيراً، خزن بهاء الكرسي المتحرك في الصندوق ووضع ليان في الكرسي الخلفي بجانب بناته. دينا، والتي كانت تجلس في كرسي السائق، صُعقت عندما تحدثت ليان لأول مرة.

“ما صوت الطنين هذا؟” سألت ليان باللغة العربية، حيث أتت الى الولايات المتحدة دون ان تعرف أي كلمة باللغة الإنجليزية. وكان صوتها يعبر عن الانزعاج.  

ثم أجاب بهاء: “يجب على دينا ارتداء حزام الأمان.”

 “حسناً، ماذا تنتظرين بحق الجحيم؟” صاحت ليان، وهي تحدق في دينا “ارتدي الحزام اللعين. لقد تسببت لي بالصداع.”

تحولت ابتسامات سارة وسلمى وسرين المُترقبة الى عبوس مليء بالقلق، ودينا بدأت تتسأل بذاتها ما الذي ورطت نفسي فيه؟ وبدأت عائلة عساف تكتشف ان ضيفتهم غاضبة لدرجة لا تسمح لها حتى بأن تشعر بالحزن.

ليان الباز تنظر الى انعكاسها في المرأة خلال الرحلة لموعد العلاج الطبيعي في مستشفى شراينرز للأطفال في شيكاغو. الندوب على وجهها ناتجة عن الغارة الجوية الإسرائيلية التي أجبرت الأطباء على بتر رجليها.

في اللغة العربية، يُمكن ان يحمل جذر كلمة مبتور معنى أخر وهو “ناقص،” وهذه تبدو كإشارة انه من الممكن فصل شيئاً محوري للفرد لدرجة انه لا يمكن اعتباره كاملاً بعد ذلك. الشخص الذي يتعرض لبتر تعرض لتغيير عن النموذج المفترض للجسد، كالرواية التي يتم تمزيق فصول منها وتفقد جزءً حاسماً منها.

عند الحديث عن غزة، كل ما نملكه هو قصص مبتورة او فُتات من الحقيقة الكاملة. حتى أكثر نقطة بيانات مفصلية في أي حرب، وهي حصيلة القتلى، ناقصة. في وقت الكتابة، احصت السلطات الصحية في غزة اكثر من 39000 حالة وفاة، ولكن بسبب التدمير الحاصل للبنية التحتية في القطاع، وبسبب وجود العديد من الوفيات المدفونة عميقاً تحت الأنقاض والتي لا يمكن احصائها، فأن السلطات تُشدد في كل تقرير تصدره ان هذه الاحصائيات منقوصة.  في شهر حزيران/يونيو، نشرت مجلة ذا لانسيت (The Lancet) مقالاً يُقدر بأن الحصار الإسرائيلي قد ينتج عنه 186000 وفاة، أي 7.9 بالمئة من سكان غزة. ولكن اكتشاف الحصيلة الحقيقة قد يتطلب عدة سنوات، هذا إذا اكتشفناها اصلاً.

فيما يتعلق بالأطفال، بعض ما نعرفه انه بحلول شهر أيار قُتل حوالي 15000 طفل وأصيب 12000 بينما يُعتبر 21000 طفلاً في عداد المفقودين. فيما يتعلق بالمصابين، قال بعض الأطباء انهم عالجوا أطفال “مُزقت أجسادهم” بسبب القنابل، او سحقوا بسبب المباني المنهارة، او يعانوا من إصابات من طلقات نارية في الرأس. العديد من المرضى الأطفال بُترت واحدة او أكثر من سيقانهم او أذرعهم. لحد الان لا نملك سوى إحصائية وحيدة متعلقة بالصغار مبتوري الأطراف، وهي تقرير لمنظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسف) يُبين انه بين السابع من تشرين الأول/اكتوبر والتاسع والعشرين من تشرين الثاني/نوفمبر عام 2023، فقد أكثر من 1000 طفل واحد او أكثر من اطرافهم. وقال متحدث باسم المنظمة في شهر حزيران/يونيو ان المنظمة لا تستطيع جمع احصائيات أكثر حداثة “بسبب التحديات الناتجة عن الظروف في الميدان.”

هذا متوقع، حيث يعتبر توفر الاحصائيات الرسمية على نطاق البلد لأعداد الأطفال مبتوري الأطراف عادةً نادراً في معظم الصراعات. ولكن ما هو واضح اننا نشهد أسرع واشد عملية تعجيز جماعية للأطفال في حياتنا. عندما ينقشع الغبار، قد تمتلك غزة أكبر عدد من الأطفال مبتوري الأطراف مقارنة بأي حرب في التاريخ الحديث.

د.غسان أبو ستة، اخصائي جراحة تجميلية وترميمية يختص في الإصابات التي يتعرض لها الأطفال في الصراعات والذي قضى اكثر من شهر في غزة يعمل مع منظمة أطباء بلا حدود في بداية الحرب، متيقن ان هذه ستكون الحقيقة على ارض الواقع. وحسبما قال لصحيفة النيويوركير (The New Yorker)، فأن تجربته في غزة زادت من إصراره على تقييم الحجم الكامل للازمة التي شهدها. أخبرني ابوستة وهو يضع يداه على جانب رأسه خلال محادثة عبر الفيديو من منزله في لندن: “خلال الـ 43 يوم التي قضيتها هناك، قمت بعمليات بتر أكثر ما قمت به خلال 20 عام من عملي كجراح في الحروب. اردت ان افهم الصورة الكاملة لما يحدث.”

بدأ ابوستة بالتواصل مع جراحين اخرين -بعضاً منهم عاد مؤخراً بعد فترة في غزة وبعضهم لا يزال هناك- وواحداً تلو الأخر قدموا تفاصيل تتماشى مع تجربته هناك. ابوستة أدرك ان ما يشاهده هو والأطباء الاخرين قد يؤدي الى رقم قياسي في عدد الحالات، وهذه كانت حقيقة مرة من اسوء أنواعها. وهو يقدر حالياً اعداد الأطفال مبتوري الأطراف في غزة بحوالي 4000 الى 4500 حتى الان.

ولوضع الأمور في سياقها فأنه حسب تقرير لاسوشيتد برس (Associated Press) فأنه خلال عامان ونصف من الصراع في أوكرانيا، فقد حوالي 20000 شخص واحد او اكثر من اطرافهم. وبحسب شهادات الطواقم الطبية والباحثين في مركز أبحاث الأطفال المصابين في انفجارات، وهو مشروع مشترك بين كلية لندن الإمبراطورية ومؤسسة انقاذ الطفل، فأن عدد الأطفال مبتوري الأطراف في أوكرانيا يبلغ حوالي 1200 حالة.

عند النظر لتقدير ابوستة لعدد الحالات من وجهة نظر أخرى وإذا نظرنا لمعدل عدد الطلاب في المدارس الحكومية في الولايات المتحدة وهو 550 طالب، فيمكننا التخيل أن هذا يعادل فقدان كافة الطلاب في 8 او 9 مدارس في منطقة تقريباً بحجم مدينة فيلادلفيا على الأقل واحد من اطرافهم. ونتخيل ايضاً ان عمليات البتر هذه جاءت بالتزامن من وابل من المَآسِي الأخرى كفقدان افراد من عائلاتهم واصدقائهم وجيرانهم ومدارسهم ومنازلهم.

بالإضافة لهذا لنتخيل ايضاً ان الأمل الوحيد لاستعادة أي شكل من الاستقرار الجسدي يتطلب من هؤلاء الأطفال مغادرة بيتهم حيث تم تدمير المصنع الوحيد للأطراف الصناعية في غزة ومركز إعادة التأهيل المرتبط به في غارة جوية إسرائيلية قبل عدة أشهر. ونتيجة لهذا، فأن العديد من العائلات التي بُترت أطراف أطفالهم يسعوا لإجلائهم للحصول على الرعاية الطبية في الخارج. العديد من الالتماسات المستميتة تملأ مواقع التواصل الاجتماعي والقليل منهم يحصل على ما يمكن وصفه بالتذكرة الرابحة للمنحوسين بشدة. الدول التي تستقبل الأطفال مبتوري الأطراف من غزة تستقبل اعداد قليلة جداً نسبياً منهم.

اما الأطفال الذين يجدوا طريقاً للخروج، فعليهم ان يركبوا الطائرة لمناطق بعيدة. وفي حالة ليان، فهذه المنطقة تبعد أكثر من 6000 ميل عن كل ما تعرفه وكل من تعرفه.

تجلس ليان في الكرس المتحرك خلال جلسة علاج طبيعي، بينما تمسك الام المستضيفة دينا عساف بأحد الأطراف الصناعية التجريبية التي ستستعملها ليان لحين تجهيز الأطراف الدائمة.

ترعرعت ليان في منطقة القرارة في ضواحي مدينة خان يونس، وهي الطفلة العاشرة في عائلة مكونة من 11 فرد.  معظم اخوتها واخواتها أكبر بكثير منها ولديهم أطفال تسميهم ليان “الشياطين الصغار،” والذين قاموا في احدى المرات بإشعال النار في الستائر للتسلية بينما كانت أمها ترعاهم. وكان والدها يعمل في مجال البناء في إسرائيل، وهذه تعتبر وظيفة ذات اجر جيد بالنسبة لفلسطينيي غزة إذا تمكنوا من اصدار تصريح. وكان والدها يبقى في إسرائيل خلال أيام الأسبوع ويعود في العطلة الأسبوعية للمنزل، بينما كانت ليان وأخيها الأصغر وسيم يتصارعوا من اجل الحصول على انتباهه من خلال إبلاغه بتجاوزات الاخر خلال غيابه.

ليان بدأت بارتداء الحجاب عندما كانت في الصف الخامس بسبب إصرار اعمامها المتشددين، والذين وصفتهم بأنهم “يتصورا أنفسهم انهم شيوخ.” لم تحب ليان ان يحدد أحداً ما يجب ان تعمله وهو أحد أسباب انسجامها مع صديقتها المفضلة سما. الفتاتان كانتا جريئتان وعابثتان. سما لم ترتدي الحجاب وفضلت ارتداء القمصان قصيرة الكم والبناطيل الضيقة ولم تتردد في رد الازدراء الذي قد يعبر عنه بعض الناس عند مرورها عنهم في الشارع بالمثل.

في بعض الأحيان، كانت ليان وسما يذهبن الى مطاعم في مدينة غزة حيث لا يتعرف عليهم أحد لكي يدعّوا انهن شابات صغيرات كي يروا من سيصدق هذه الخدعة. وكنّ يتحدوا بعضهن البعض في الشِعر ليروا من منهن تكتب مقطوعة شعرية أفضل. في احدى المرات، سرقن كتاب العمل الخاص بأحد المعلمين ووزعوا أسئلة الاختبار على زملائهم في الصف. ولكي يجعلوا صداقتهم المميزة رسمية أعطت سما لليان قلادة مُعلق عليها شمس بينما ارتدت سما قلادة متوافقة مُعلق عليها قمر.

في صباح يوم السابع من تشرين الأول/اكتوبر 2023، كانت ليان في طريقها للمدرسة عندما اخترق وابل من الصواريخ السماء فوق رأسها، مما جعلها تمسك طرف زيها وتركض نحو المنزل. وعند وصولها للمنزل اتصلت بسما.

“هل ستذهبين للمدرسة؟” سألت ليان.

واجابتها سما: “لا، انا خائفة جداً. “

كان منزل ليان قريباً من الحدود مع إسرائيل، وكانت قد اعتادت على البقاء في منزل اختها التي تسكن في عمق مدينة غزة كلما اندلع القتال بين حماس وإسرائيل. وهذا ما فعلته يوم السابع من تشرين الأول/اكتوبر، ولكن هذه المرة ذهبت ولم تعد. بعد مرور بضعة أيام من اعمال العنف، وصل والدا ليان خبراً مفاده ان منزلهم تم تدميره. وسرعان ما أصبحوا كالآلاف من الفلسطينيين غيرهم محشورين في ملجأ للحي ممتلئ عن بكرة ابيه.

وكانت سما تزور ليان في الملجأ. وفي أحد الأيام في منتصف شهر تشرين الأول/اكتوبر تشاجرت سما مع فتاة علقت ساخرة على ما كانت ترتديه. وحينها توسلت ليان لصديقتها لكي تتغاضى عما حصل، ولكن سما رفضت ذلك. وقالت ليان: “سما كانت منزعجة وفي نفس الوقت كانت مكتئبة. وكانت تريد ان تنفس عن غضبها.” قامت سما بمسك الفتاة من كتفها ودفعها نحو الحائط، ثم تدخلت والدة الفتاة وصفعت سما على وجهها. ثم تدخل افراد من عائلة ليان لردع سما ومنعها من الانتقام، بينما تجمع الناس حولهم للمشاهدة.

ابتسمت ليان بينما كانت تسترجع الحادثة. سما كما عرفتها لم تتراجع ابداً.

بعد مرور أربعة أيام على الحادثة، قُتلت سما مع معظم افراد عائلتها بعدما دمرت قنبلة إسرائيلية منزلهم. عندما اخبرتها إحدى اخواتها بوجود شهداء في مستشفى قريب يحملوا اسم عائلة سما، قامت ليان بالاتصال بهاتف صديقتها المحمول مراراً وتكراراً ولكن دون جدوى. وهرعت الى المستشفى ثم رأت والدة سما، لا تزال حية، في الرواق، “وقلت لنفسي حينها، لقد فقدنا سما،” استذكرت ليان.

سمعت ليان الأطباء يخبروا والدة سما انها يمكنها ان ترى ابنتها لأخر مرة، ولكن حذروها من ذلك، لأن جسد سما كان ممزق وسيكون مشهد شنيع. ثم هزت والدتها رأسها رافضة ان تراها.

ولكن ليان ارادت ان ترى صديقتها، ولم “أكن اكترث” بتحذيرات الأطباء حسبما قالت. “سما كانت حياتي كلها.”

ولكن ما رأته ليان لم يكن جسداً، كان عبارة عن “جذع وايدي،” كما روت. ولكنها وجدت الطمأنينة بتسلسل الاحداث هذا لأن سما لم تكن حية لترى ما سيحصل بعد تسعة أيام، حينما فقدت ليان سيقانها. وتقول ليان: “لو رأتني سما هكذا، كانت ستموت من الحزن.”

الغارة الجوية حدثت عند الرابعة صباحا يوم 27 تشرين الأول/اكتوبر. وكانت ليان تسكن مع عدة أعضاء من عائلتها في منزل اختها إخلاص، والتي انجبت طفلاً حديثاً أسمته “عودة،” بمعنى “الرجعة.”   وفي ذلك الوقت كانت ليان مستيقظة وكانت تستعد لمساعدة اختها الأخرى ختام في إعطاء الدواء لابنتها جنى البالغة من العمر خمسة أعوام. وقالت ليان: “كنت اتحرك باتجاهها عندما اصطدم الصاروخ وسقطتُ على الأرض.” ثم انهارت كتلة ضخمة من الاسمنت في الغرفة وكانت كبيرة لدرجة انها تهيأ لها انها ملأت المكان. “ختام وجنى قُتلتا فوراً تحت ناظري،” قالت ليان ” لهذا اليوم الصورة لا تفارق ذهني. حدثت امامي مباشرةً.”

بعد هذا اصطدم صاروخ اخر بالمبنى وشعرت ليان بجسدها يطير في الهواء. عند استرجاع الحادثة، تتذكر ليان بانها كانت تسقط، وتسقط، وتسقط، حيث هوى جسدها من ستة طوابق قبل ان يرتطم بالأرض. على الأرجح أن شدة الاصطدام هي ما هشمت ساقيها لحد غير قابل للترميم. وفي كل مكانٍ حولها، انهمرت الشظايا والحطام كالمطر.

وبعد مرور وقت، نقلت سيارة إسعاف ليان لمستشفى ناصر، وهو نفس المكان الذي شهد ولادة عودة قبل 48 ساعة. تذكرت ليان ان أحد الأطباء كان يقول “الى الثلاجة” كناية عن المشرحة عندما هرعوا لإدخالها، ولكن رد عليه أحد المسعفين قائلاً “لا، لا يزال لديها نبض، ولكنه ضعيف.”

أُخذت ليان لغرفة العمليات، حيث تم بتر ساقيها دون تخدير، لم تعي ما كان يحدث حولها ولم تشعر سوى بالألم الحارق. وكانت تصرخ “اليس لديكم أي رحمة،” ولكن صرخاتها لم تلق مجيباً.

ولكنها لم تستوعب ما حصل إلا في وقت لاحق، عندما كانت مستلقية على الحمالة في المصعد وتحسست مكان القطع في رجلها اليمنى، ثم صاحت “لقد قطعوا أرجلي!”

ما تذكرته بعد هذا هو استيقاظها في غرفة المستشفى، حيث تواجد والداها وعائلتها واصدقائها. “اول شيء سألتُ عنه هو القلادة،” قالت “هي الشيء الوحيد المتبقي لي من سما.” ثم ركضت صديقتها خلود نحو سريرها متبسمة لتطمأنها ثم قالت: “انها معي، يا ليان. سأعطيك إياها عندما تتحسن صحتك.” ولكن ليان علمت بعد هذا ان هذه لم تكُن الحقيقة، لعل خلود كانت تحاول طمأنتها من خلال الكذب عليها. القلادة فُقدت في غياهب الحطام في غزة صحبة هاتف ليان المحمول والذي يحتوي على كل ما تُقدسه من صور وفيديوهات لسما وعائلتها وحياتها قبل الحرب.

سألت ليان والدها عما حدث لمن كانوا في المنزل عندما اصطدم به الصاروخ، لأنها لم تثق بذاكرتها، وأجاب والدها: ” الله يرحمهم.” ختام وجنى لم يكونوا الضحايا الوحيدين للقصف، بل رافقهم إخلاص والرضيع عودة كذلك.

في تلك الليلة حاولت والدة ليان غسل شعرها المتلبد بسبب بقايا الدماء والتراب والحطام، ولكنها سرعان ما يئست من المحاولة.  “بناتها قتلوا، واحفادها قتلوا، كيف يمكن ان يتوقع أحد منها ان تجلس لتنظف شعري،” قالت ليان. بدلاً من ذلك قامت والدتها بإحضار مقص وقص شعرها بالكامل.

ليان تضحك وهي تمسك فاتورة في متجر. منذ إجلائها، قدر برنامج الأغذية العالمي يواجه 96 بالمئة من سكان غزة انعدامًا حادًا في الأمن الغذائي، وإن المنطقة تواجه خطر مجاعة قائم.

في الأشهر القليلة التالية، خضعت ليان لخمس عمليات جراحية، ولم تكن تحت التخدير إلا في واحدة منها.  وحاربت الحمى والالتهابات والاضطرابات الكلوية، ولكن حالتها النفسية المتدهورة كانت أكبر مُسبب للقلق لعائلتها. عندما خرجت من مستشفى ناصر بسبب الحاجة لاستخدام سريرها بعد قدوم موجة جديدة من الضحايا، أعادها والديها الى الملجأ الذي يسكنوا فيه، ولكن كان من الواضح ان ليان لم تكن بحالة تسمح بوجودها حول الغرباء المتلصصين. لذا، اخذوها لمنزل جدها وجدتها، وهو عبارة عن بناية متعددة الطوابق تعج بالأقرباء والأصدقاء والجيران المُهجرين.

ولكن الأمور ازدادت سوءاً، ومجرد النظر الى الناس وهم يمشوا أصبح يُغضب ليان، ورؤية الأطفال يركضوا ويلعبوا كان أكبر من قدرتها على الاحتمال. عمها احمد حاول السيطرة على الوضع وأمر الفتيات الاخريات في المبنى أن “يتركوها لوحدها. ممنوع ان يتكلم أحد مع ليان.” كلما ارادات ان تبحث عن متنفس على سطح المبنى، كان يقوم عمها بإخلاء الممر والمصعد لكي تصل للسطح دون أي عقبات.

 عندما يفقد طفلاً أحد اطرافه فالوقت غاية في الأهمية، حيث ان سرعة الحصول على الرعاية وإعادة التأهيل المتخصصان تزيد من فرصهم في التأقلم جسدياً على المدى البعيد. أخت ليان اريج والتي تعيش في أوروبا بعثت رسائل لعدة اشخاص على أمل ان يقدموا المساعدة. ثم قام أحد الصحفيين يدعى محمد الشاعر بنشر منشور عن ليان على حسابه على انستغرام، حيث يملك اكثر من 100 الف متابع.

وبعد فترة وجيزة، لفتت قصة ليان انتباه رجل امريكي في العقد الرابع من عمره يُدعى ستيف سوسيبي.سوسيبي صاحب العيون شديدة الزراق والبنية المتينة يشبه لاعب كرة قدم سابق أكثر من كونه عامل إغاثة لفترة طويلة، ينحدر من اوهايو وعمل في تسعينات القرن الماضي كصحفي مستقل في غزة، مما الهمه ليؤسس جمعية إغاثة أطفال فلسطين  (PCRF) الخيرية لنقل الأطفال المرضى والمصابين الى الولايات المتحدة الامريكية لتلقي الرعاية الطبية مجاناً. سوسيبي شهد صراعات في غزة في الماضي ولكن يرى ان ما يحدث حالياً مُختلف تماماً، حيث قالً: “انها عملية إبادة جماعية. خلال عملي لأكثر من ثلاثين عام هناك لم أرى أي شيء يشبه ما يحدث حالياً.”

بسبب وجود توثيق مرئي على الانترنت على مدار الساعة للفظائع المرتكبة، قال العديد من المحاميين الحقوقيين أن العالم يشهد إبادة جماعية على البث المباشر. وهذا ما يتفق عليه عدد متزايد من الخبراء القانونيين. في شهر كانون الثاني /يناير، أمرت محكمة العدل الدولية إسرائيل بأن تتخذ “كل التدابير الممكنة في قدرتها لمنع” أعمال الإبادة الجماعية “ومنع ومعاقبة التحريض المباشر والعلني لارتكاب الإبادة الجماعية.” كما أصدرت المحكمة قراراً اخراً في شهر تموز/يوليو ينص ان السياسات الاستيطانية الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية غير قانونية. بالإضافة لذلك فقد قدمت المحكمة الجنائية الدولية طلبات لإصدار أوامر قبض ضد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع يوآف غالانت بسبب جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، بما يشمل ” تجويع المدنيين كأسلوب من أساليب الحرب،” و ” تعمد توجيه هجمات ضد السكان المدنيين،” و “الاضطهاد،” و “الإبادة.” كما قدمت المحكمة الجنائية الدولية طلبات لأوامر قبض ضد ثلاثة من قادة حماس.

في بداية عام 2024، مع ازدياد القصف على غزة، أطلق سوسيبي منظمة غير حكومية جديد تدعى هييل (HEAL) فلسطين أي منظمة الصحة والتعليم والإغاثة والقيادة لفلسطين. بالشراكة بينهم، تقوم جمعية إغاثة أطفال فلسطين وهييل بإجلاء الأطفال المصابين في الصراع لدول اجنبية، بما في ذلك الولايات المتحدة. وهذا العمل يتطلب كمية هائلة من الجهد والأموال والبنية التحتية التنظيمية. وقامت هييل بإجلاء تسعة أطفال مبتوري الأطراف منذ الخريف الماضي. اما ليان، فقد حصلت على الموافقة لتلقي العلاج في مستشفى شراينرز للأطفال في بداية عام 2024 ثم سافرت الى مصر مع احدى قريباتها للحصول على تأشيرة للولايات المتحدة. منذ ذلك الحين، قامت إسرائيل ببسط سيطرتها على معبر رفح الحدودي مع مصر، مما يعرقل الإجلاء الطبي. وبحسب تقرير من شبكة سي بي اس الإخبارية (CBS News) في تموز/يوليو ، فأن “عُمال الإغاثة يقولوا أن هذا جعل إنقاذ الأطفال شبه مستحيل.” وبالرغم من هذا، فأن هييل تعمل حالياً من اجل نقل 12 طفلاً مبتوري الأطراف لخارج غزة.

معظم المنتفعين من خدمات هييل يسافروا مع مُرافق – اما أحد والديهم او اخد الاخوة الأكبر سناً، على سبيل المثال – ويسكنوا إما في إسكان المستشفى او مع عائلات متطوعة تسكن بالقرب من مكان تلقيهم العلاج. ولكن منظمة هييل ارتأت انه من الأسهل الحصول على مكان إقامة لليان إذا أتت للولايات المتحدة لوحدها. اخت ليان القاطنة في أوروبا، والتي أصبحت نقطة التواص الرئيسية مع هييل بسبب الانقطاعات في الاتصالات في غزة أيدت المنظمة بأن ليان يجب ان تسافر لوحدها إذا عنى ذلك تلقيها الرعاية دون الحاجة للانتظار أكثر. ليان اشتاطت غضباً بسبب سفرها لوحدها قائلة: “الكل أتى مع مرافق. الكل باستثنائي.”

 وصلت ليان الى شيكاغو وهي مُصرة على اثبات نفسها للغرباء الذين ستعيش معهم.

تنزل ليان على السلالم بمساعدة اخصائية العلاج الطبيعي. جراح تقويم العظام المسؤول عن حالتها حذّر انها إذا عادت لغزة سوف تتلف أطرافها الصناعية بسرعة بسبب الركام.

عائلة عساف تنحدر من الأردن، حيث أتت دينا الى الولايات المتحدة بعمر الخامسة وبهاء بسن الثامنة عشر، وتعرفوا على بعضهم في دورة للغة الإنجليزية في الكلية المجتمعية. بهاء البالغ من العمر 40 عاماً يعمل حالياً كرئيس القسم المالي في معرض سيارات، اما دينا البالغة من العمر 38 عاماً فهي ربة منزل. العائلة تتابع الاخبار القادمة من غزة عن كثب وتعارض الحرب، كما شارك بهاء في مظاهرات محلية مطالبة بوقف إطلاق نار. وعلم بهاء عن حالة ليان من خلال صديق لديه ارتباط مع منظمة هييل. وبعد التصويت، اتفق دينا وبهاء وبناتهم بالإجماع على استقبال ليان في منزلهم.

دينا وبهاء كانا عاقدا العزم على جعل ليان تشعر كأنها جزء من عائلتهم وأنها لا تختلف عن بناتهم. وقرروا وضعها في غرفة في الطابق العلوي حيث ينام الجميع بالرغم من توفر غرفة في الطابق الأرضي حيث الوصول أسهل، لأنهم لم يريدوها ان تشعر بالعزلة. كما تأكدوا من وجود نفس إطار التخت والزينة ودمى الحيوانات المحشوة الموجودة في غرف بناتهم في نهاية الرواق.

خلال الرحلة من مطار اوهاير، أعلنت ليان بأنها لا تريد أي علاقة بعائلة عساف وتريد ان تبقى في غرفتها طوال الوقت. وعندما رأت مكان إقامة عائلة عساف، وهو منزل طوب كبير، امتعضت قائلة انه لا بد أن دينا وبهاء يعملوا كتجار مخدرات والا لن يستطيعوا تحمل تكلفة شراء منزل كهذا. ولكن دينا اجابت “كل ما في الأمر اننا نعمل بجد،” ثم قهقهت ليان بصوتٍ عالٍ لدرجة انه أفزع دينا.

رفضت ليان ان تسمح لبهاء بحملها على الدرج للوصول لغرفتها، وبدلاً من ذلك قامت بدفع نفسها للنزول على الكرسي المتحرك وتسلقت على الدرج لوحدها مستخدمة يديها لتأرجح افخاذها من درجة لدرجة ببراعة تضاهي براعة لاعبي الجمباز على عارضة التوازن. وعندما رأت ليان الغرفة التي حضرها لها دينا وبهاء، برقت عيناها وقالت “انها كبيرة،” ولم يسعها الى ان تبتسم ابتسامة طفيفة رغماً عن ذاتها.

بعد هذا أدركت عائلة عساف ان ليان كانت تخشى من العلاج الطبي الذي سافرت كل هذه المسافة لتلقيه، حيث انها قضت عدة أسابيع في المستشفى مسبقاً ولم تريد تكرار هذه التجربة. إلا ان مستشفى شراينرز للأطفال معتاد على التعامل مع الأطفال الذين يحتاجوا للبقاء للمستشفى لفترات طويلة، ومرافقه مهيئة ليشعر الأطفال بأنهم مرحب بهم. ان مجمع المستشفى مُزين بجداريات زاهية ويحتوي على طاولة للعب تنس الطاولة، كما يستضيف “يوم الابطال الخارقين،” حيث يقوم متطوعين بارتداء أزياء خاصة وتوزيع رداءات على للمرضى.

 خلال أولى زياراتها للمستشفى، التقت ليان بالمختصين المسؤولين عن علاجها وهم د.جيفري اكمان، جراح العظام للأطفال، وشون مالك، اخصائي الأطراف الصناعية وتقويم العظام المرخص، وانجيلا غورينو، اخصائية العلاج الطبيعي ذات الشعر الأشقر المائل للاحمرار والطابع البشوش.  ويعمل الفريق عن كثب لمساعدة ليان في إعادة التأهيل ومراقبة كل جزء من جسدها، أي العضلات، والعظام، والأعصاب، والجلد، للتأكد من تأقلمها مع استخدام الأطراف الصناعية في حياتها.

هناك اعتقاد دارج لدى أطباء عظام الأطفال بأنه خلال العمل مع مبتوري الأطراف، إذا طال جلوسهم في الكرسي يبدؤا بالتحول ليشبهوا هذا الكرسي أكثر فأكثر. يريد الأطباء ان يبدأ الأطفال مبتوري الأطراف باستخدام الأطراف الصناعية بأسرع وقت ممكن، وليان قد فقدت وقتاً ثميناً اصلاً. خلال الستة أشهر التي انقضت منذ عملية البتر، لم تتلقى أي علاج طبيعي، كما اختل توازن اوراكها بسبب اعتيادها على الميل على اتجاه واحد عند الجلوس في الكرسي المتحرك. من دون التدخل، يمكن ان يصيبها تقلص في الورك بمعنى حصول تضييق في أنسجة المفصل بطريقة تُثبت جسدها بموضع غير طبيعي للأبد. خلال عملية إعادة التأهيل، تحتاج ليان لارتداء مقوّم للظهر والورك لتصحيح توازن جسدها بالإضافة لارتداء جوارب ضغط للتقليل من الالتهاب في ما تبقى من رجليها. كما تحتاج الى القيام بتمارين الإطالة بشكل متكرر من اجل استقامة الجذع السفلي.

في ذات الوقت، كل واحدة من أرجل ليان شكلت تحدي قائم بذاته يعيق تعافيها، حيث ان رجلها اليسرى بُترت من فوق الركبة أي أن الطرف الاصطناعي على هذه الجهة يحتاج إضافة مفصل ركبة ميكانيكي يجب ان تتعلم كيفية استعماله. اما رجلها اليُمنى فأن الركبة لا تزال موجودة، ولكن الجلد الذي يحيط بها ممتلئ بالندوب ومحتمل أيضا وجود شظايا متداخلة به، مما يُصعب تركيب طرف اصطناعي لها. بالمجمل، فأن تعلم ليان المشي مجدداً يضاهي اتقان آلتين موسيقيتين وعزفهم في ذات الحين.

ليان لم تكن صبورة، وفي اول جلساتها العلاجية، ركب لها الطاقم أطراف تجريبية – وهي عبارة عن أرجل ألية المظهر تستخدم لغايات التدريب – وثم حاولت الإسراع لتصل الى جهاز الركض في الزاوية. “كان هذا حرفياً في اول يوم،” تقول غورينو “لم أكن اعرفها سوى لخمس دقائق حينها.”

ولكن ليان ايضاً سريعة التعلم. في البداية أراد الطاقم ان تبقى في مستشفى شراينرز للأطفال لمدة أسبوعين لتلقي العلاج المكثف، وبعد هذه الفترة تعود لمنزل عائلة عساف لبضعة أشهر تزور خلالها المستشفى في مواعيد دورية. ولكنها قامت بأداء جيد جداً في اول أسبوع وكانت منزعجة بسبب اضطرارها النوم في المستشفى مما دفع الطاقم ليقرر ان تعود لمنزل عائلة عساف مبكراً بشرطٍ واحد، وهو ان تقوم دينا بوعدهم ان تخبئ الارجل الصناعية عن ليان، لأنها قدد تتعرض لإصابة بالغة إذا حاولت استخدامهم دون رقابة.

عندما عادت ليان لمنزل عائلة عساف بعد قضائها أسبوع في مستشفى شراينرز للأطفال، سارة وسلمى وسيرين كنّ يختبئن خلف باب المنزل الرئيسي ثم انقضوا وأطلقوا حفن من الأوراق الملونة عند دخول ليان على الكرسي الذي تجره دينا. في تلك الليلة، دينا اخذت الأطراف الصناعية معها للسرير وخلدت للنوم بوجود الأطراف بينها وبين بهاء.

بهاء عساف، وليان، وسارة عساف (من اليسار الى اليمين) يضحكوا بينما يلعبوا لعبة سكيب-بو خلال ليلة الألعاب العائلية.

ومع مرور الأسابيع، تبدد غضب ليان الموجه نحو العائلة المستضيفة لها، حيث كانت دينا تجيب على نوبات الانفعال دون إظهار مشاعرها، وأصبحت ليان تحترم الحدود التي يتم وضعها لها، حتى لو أصبحت الكلمة الوحيدة التي اتقنتها باللغة الإنجليزية هي “لا.” ليان وسلمى وسارة، وطدوا علاقتهم بسبب حبهم المشترك للتجميل والرعاية بالبشرة. اما سيرين وهي أصغر فتيات عائلة عساف وتبلغ من العمر خمسة أعوام، كانت مبهورة بضيف عائلتها المميز وخبأت الأغراض الصغيرة التي اعطتها إياها ليان في شنتة ظهر مُزينة برسمات فراولة، بما في ذاك حوت لعبة ووعاء من السلايم زهري اللون.

لكن لم تغب غزة عن ذهن ليان، وفي احدى المرات شاركت فيديو مع دينا كانت تشاهده كل ما تشعر بالاشتياق لأخواتها. ويُظهر الفيديو والد ليان يقف بجانب جثثهن بعد سحبها من الركام ولفهن بأكفان على عجل. بدون هاتفها النقال وخزينة صور العائلة المحفوظة عليه، هذه كانت الطريقة الوحيدة التي يمكن لليان ان ترى بها أخواتها ختام وإخلاص.

في عصر يوم ثلاثاء في شهر نيسان/أبريل، تلقت ليان مكالمة هاتفية اعادتها لفظائع الحرب. بينما كانت دينا تقوم بتنظيف المنزل استعداداً لاستضافة إفطار رمضاني بعد نهاية يوم من الصيام، أتت سيرين لها وقالت والصدمة تعلو وجهها “امي، اعتقد ان ليان تعاني من خطبٍ ما.” ثم سمعت دينا الصراخ في الأعلى.

هرعت دينا لغرفة ليان ووجدتها في كرسيها المتحرك. “لماذا يحدث هذا؟” قالت ليان باكية “لقد فقدت الكثير من الناس.”

كانت ليان قد تلقت اتصال من قريبها ليخبرها ان والدها واخاها الأكبر كرم قد قتلوا في إطلاق نار من طائرة إسرائيلية على موقع الخيمة التي كانوا يسكنوا فيها. دينا قالت لليان ان تهدأ وتتنفس، ولكن ليان صاحت: “من سيعتني بعائلتي. من سيطعمهم؟” كان والدها وكرم مُعيلي العائلة وكانوا يعتنوا بأطفال اقربائهم الذين قتلوا في غارات جوية سابقة.  ليان صرخت تستجدي لله متمنية ان تعرف لماذا يحصل هذا.

 ركضت دينا لتبلغ بهاء في مكان عمله واخبرته انه يجب ان يُبلغ جميع المدعوين للعشاء ان العشاء تم الغاءه. وعندما عادت دينا للغرفة وجدت ليان تلطم.

وقالت ليان: “انظري الي. يا ليتني مت بدلاً منهم.”

“لا تقولي هذا،” قالت دينا “لماذا تتحدثي هكذا.”

“انظري الي” انفعلت ليان قائلة بصوت مليء بالازدراء “ليس لدي أرجل.” ثم سألت: “هل يمكنك رؤية وجهي؟” مُشيرة الى ندبة متعرجة تمتد من طرف شعرها لقصبة انفها.

وفي موجة من الحزن وكره الذات استمرت ليان بالقول: “لن أكون طبيعية ابداً. من قد يرغب بزواج فتاة مثلي؟” هل سأطلب من زوجي ان يساعدني بإزالة رجلي الصناعية عند الذهاب للسرير في الليل للنوم؟ من سيفعل هذا؟ من يتقبل هذا؟ إذا كان هناك أحد يجب ان يموت فهو انا.”

 دينا تمكنت من اقناع ليان بأن تخبرها مع من تحدثت على الهاتف، وعندما أدركت دينا انها لم تتحدث مع قريب من الدرجة الأولى، تواصلت مع وكيل لمنظمة هييل وطلبت منه ان يجد احداً في الميدان في غزة يمكنه تعقب عائلة ليان لاكتشاف ما حصل.

بعد فترة وجيزة، علمت دينا ان كرم لا يزال على قيد الحياة بالرغم من اصابته برصاصة في كتفه، وأن والد ليان مصاب وحالته حرجة. ولكن، أحد اخوة ليان الأخرين وهو ناجي البالغ من العمر 17 عاماً هو من قُتل.

 دينا نقلت الخبر لليان. ثم تبين ان ناجي كان قد اتصل ثلاث مرات في اليوم السابق لكنها لم تُجيب. “كان يجب ان اجيب على الهاتف، لماذا لم اُجيب؟” قالت ليان باكية.

وفي الأسبوع التالي لوفاة ناجي، خافت ليان من النوم بعد غياب الشمس، وقالت لدينا “انا أكره الليل. أتمنى لو لم يأتي الليل.” عندما يتأخر الوقت ويعم الصمت لا تفلح ليان في إيقاف افكارها المتسارعة.

طلبت ليان من بهاء ودينا ان يسهروا معها حتى الفجر، وحاولوا قصارى جهدهم حيث لعبوا عدد لا يحصى من جولات لعبة سكيب-بو وشاهدوا حلقة تلو الأخرى من المسلسلات التركية حتى وقت متأخر من الليل. في النهاية، يضطر بهاء للذهاب للنوم لأنه لديه عمل في الصباح بينما تُكمل دينا الوردية لوحدها. في بعض الأحيان يغلب دينا النوم، وتبدأ ليان بالبكاء لدرجة تيقظها من النوم.

لا تخلد ليان للنوم إلا عندما يستيقظ جميع افراد المنزل وتشرق الشمس.

تساعد ليان سلمى عساف على وضع المكياج. ليان، والتي سافرت للولايات المتحدة لوحدها، انسجمت مع بنات عائلة عساف بعد فترة وجيزة. 

عندما تواصلت مع عائلة عساف لأول مرة حول اجراء مقابلة مع ليان، وصفها بهاء بأنها فتاة لطيفة قائلاً “لا يبدو عليها انها مرت بما مرت به.” ثم تحدثت مع ليان على الهاتف وكانت مُنفتحة لمقابلتي وايمان محمد، وهي مصورة من أصول غزاوية تعمل في الولايات المتحدة. وقبل أيام قليلة من السفر الى شيكاغو لمقابلتها، بدأت التحذيرات بالظهور. مُنسقة المرضى في منظمة هييل في ذلك الوقت دنيا سعد، اخبرتني ان ليان “قد تكون مُتقلبة المزاج،” ولديها عادة في تغيير رأيها على هواها. كما وضحت لي دينا انني “لا يجب ان أخذ أي شيء تقوله على محمل شخصي.”

في وسط نيسان، عندما وصلت الى باب منزل عائلة عساف، استقبلتنا دينا وهي ترتدي قميص حرير وردي مكوي، وكان في شعرها خصل شقراء بين شعرها المنساب. وتتحدث باللغة الإنجليزية بلهجة طفيفة.

ثم ظهرت سارة بابتسامتها العريضة وهي تدفع ليان على كرسيها المتحرك للأمام، ولكن ليان لم تكن تبتسم. كانت تحدق الينا بهدوء وقالت وهي تقلب اعينها “حسناً، دعنا ننتهي من هذا الامر.” ثم استدارت في كرسيها وذهبت لغرفة المعيشة.

ثم جلسنا مع دينا على اريكة زاوية بينما حددت ليان كيف سيمضي اليوم، وقالت “لا أريدكم ان تظهروا إصابتي في الصور. ” كنا قد تحدثنا مسبقاً على الهاتف حول الصور وكانت ليان قد وافقت على ان تدع ايمان تصورها، ولكني أدركت ان ليان الان تختلف عما كانت عليه قبل عدة أسابيع. كان علينا ان نحترم – ونرضى بـ – الشخص الموجود امامنا.

ليان لا تحب أن ينظر الغرباء الى أرجلها المبتورة ولا تريد شفقتهم، وهي بالتأكيد ليست مهتمة بإلقاء نظرة على حياتهم السعيدة والغير متأثرة بالحرب او الفقدان.

كان من الواضح ان ليان تهتم بمظهرها. في سن الرابع عشر، وعيها الذاتي حول مظهرها يكون شديد في كل الأحوال ولكن بسبب البتر التي تعرضت له فهذا الوعي كان مفرط بشدة. كانت ترتدي بذلة رياضية من نوع كالفن كلاين وكانت عيناها مُحددة بلون ابيض، وذكرني وجهها الدائري الجميل بسيلينا غوميز. وفي احدى المرات اخبرتها مُترجمة في المستشفى بانها تشبه المغنية اللبنانية الشهيرة ماريتا، ويبدو ان هذا اسعد ليان.

ليان اخبرتنا انها لا تريد ان تكون محط للشفقة، وصاحت ثم رمت قارورة المياه على الأرض قائلة “المستقبل امامي. لن اتحمل إذا بحثت عن اسمي على جوجل عندما اكبر وكان وكل ما اراه هو صور لي وانا مصابة.” كانت تطالب بأن تحافظ على جزء من السيطرة على ظروفها، كما فعلت عندما قابلت عائلة عساف لأول مرة. كما رفضت بإصرار ان تصبح اعاقتها هي كل ما يعرف عنها.

وافقنا على ان ننفذ رغبة ليان فيما يتعلق بالصور ثم تحدثنا معها عن حياتها، والسابع من تشرين الأول/اكتوبر، والغارة الجوية التي بعثرت عائلتها. في مرحلة ما، اخذ الحديث منحنى فلسفي وتناقشنا حول طبيعة البشر وإذا كانوا طيبين بالفطرة. ليان عارضت هذه الفكرة بشدة، واستشهدت بدليل انه تم بتر رجليها دون تخدير، مُفترضة ان ذلك كان خيار الأطباء. “كنت اصرخ بشدة وفقدت وعيّ بسبب عُلو صراخي،” قالت لنا ثم أصدرت صوتاً بلسانها تعبيراً عن استيائها “بعد كل هذا، تريد ان تخبريني ان هناك خير في العالم؟”

وعندما أشرنا ان حجم الدمار في غزة أدى لافتقار العديد من المستشفيات للمقومات الأساسية، أصدرت ذات الصوت بلسانها وسألت: “انا اصبت في بداية الحرب، كيف نفذت المواد بهذه السرعة؟ لأنهم يعطوا هذه المواد فقط للأفراد أصحاب النفوذ.”

بدت كلماتها كأنها محاولة لتفسير ما لا معنى له ولتصارع الحقيقة المؤلمة وهي ان البالغين في حياتها عجزوا عن حمايتها من الكارثة التي حلت بها. من خلال اعتقادها ان الأطباء اختاروا إيذائها، فهي على الأقل تخلق منفذاً لتنفيس غضبها.

تقوم اخصائية العلاج الطبيعي بتعديل الأطراف الصناعية التجريبية لليان تحضيراً لتدريبها على المشي.

وضعنا خطة لنرافق ليان لجلسة العلاج الطبيعي في اليوم التالي، ولكن عندما وصلنا لمنزل عائلة عساف في الصباح، كان هناك ازمة تظهر للعيان. في محاولة للتخطيط للمستقبل، طلب ستيف سوسيبي ان يُرافق أحد متطوعي منظمة هييل ليان للموعد الطبي المحدد بعد بضعة أيام بدلا من دينا، ولكن هذا اغضب ليان ورفضت ان تنزل للطابق السفلي. “انا لست سلعة يتم تأجيرها لهؤلاء الأشخاص،” صاحت ليان بينما كانت دينا تقف هادئة في المطبخ وتملئ كوب وردي من نوع ستانلي بالماء، ثم اضافت ليان “هذه جلسة علاجي. لا اريد أي غرباء هناك.”

أبرز هذا الخلاف الحقيقة المزعجة المرتبطة في بعض الأحيان بتلقي الاعمال الخيرية. تعتمد المنظمات الغير حكومية كهييل على شبكة من المتطوعين والمانحين، وهم اشخاص متلهفين لمساعدة طفل خرج من غزة لدرجة انهم قد يستقبلوهم في المطار في بعض الأحيان محضرين صوراً وبالونات، ويدعوهم لتناول العشاء وللأنشطة العائلية وحدائق الملاهي. وهذا من ناحية أخرى يتطلب ان يمثل الطفل دوراً معينة وهو ان يبتسم ويقف لالتقاط الصور ويعبر عن امتنانه.

ليان لا تحب أن ينظر الغرباء الى أرجلها المبتورة ولا تريد شفقتهم، وهي بالتأكيد ليست مهتمة بإلقاء نظرة على حياتهم السعيدة والغير متأثرة بالحرب او الفقدان.

تنفست دينا الصعداء عندما علمت ان برنامج متطوع منظمة هييل لا يسمح لهم بحضور الموعد مع ليان. ولكن الان أصبحت الساعة تقريباً 11:30 وتأخرنا على مغادرة المنزل حيث تتطلب الطريق للمستشفى رحلة بالسيارة لمدة ساعة. نادت دينا وهي تنظر لأعلى السلالم قائلة “هيا يا ليان. انه ليس يوم عرسك، أسرعي.”

عندما خرجت ليان اخيراً، كانت ترتدي سترة لونها ازرق مُخضر وبنطال قصير متناسق مع السترة.  وضعت دينا حبتان كبيرات من المثبطات العصبية في يدها للمساعدة في تخفيف ألم وهم الاطراف، حيث شعرت ليان في بعض الأحيان بصدمة كهربائية تسير في مكان بتر رجليها وكأن جسدها ينادي على الأجزاء المفقودة منه التي لم تعد في مكانها.

عند الوصول للمستشفى، بدت ليان سعيدة برؤية أخصائية العلاج الطبيعي حيث حضنتها ونادت على اسمها مع مد مقاطعه دلالة على الود: “أننننجيييييييييلللااههه.” وبعد ذلك من خلال ترجمة دينا من اللغة العربية، علقت ليان ان غورينو كانت تضع مسكارا في ذلك اليوم. وكانت ليان دائماً تنتبه عندما تغير غورينو أي شي بمظهرها.

ثم أوضحت غورينو: “اليوم عيد ميلاد زوجي.”

وردت ليان قائلة “او لا لا!” وهي تغمز.

الهدف الرئيسي من العلاج هو جعل ليان تمشي باستخدام الأطراف الصناعية مع مساعدة تقل تدريجياً مع الوقت. وكانت غورينو قد ساعدتها على التقدم من استخدام أداة مساعدة المشي للانتقال لاستخدام عكازان تحت الكتف الى استخدام عكاز واحد فقط. ثم كانت حينها ليان مربوطة بحبل معلق على سكة في السقف مما يخولها بالمشي لوحدها. غورينو كانت تمسك الطرف الاخر من الحبل وتسحبه عندما تتعثر ليان، لتمسكها قبل ان تسقط على الأرض.

اما شون مالك، اخصائي الأطراف الصناعية، كان يشاهد حركة ليان عن كثب، وكان في بعض الأحيان يجري تعديلات على الأطراف الصناعية التجريبية، حيث كان يراقب مواصفات جسدها لكي يصمم الارجل المخصصة لها. وستكون هذه جاهزة خلال عدة أسابيع.

خلال الجلسة، جر مالك مرآة كامل ووضعها أمام ليان. وكان قد أخبرني “انها تحب النظر في المرآة.” كانت ليان تتمختر عند رؤية انعكاسها في المرآة، وكانت تتمايل بكل خطوة وتتمتم اغنية بالعربية بينها وبين نفسها لم أتمكن من سماعها.

سمحت ليان لإيمان بالتقاط بعض الصور لها وهي ترتدي الأطراف الصناعية ولكنها أبعدت الكاميرا عنها عندما كانت غورينو تقوم بتمارين الإطالة لجسدها دون الأطراف الصناعية. عندها، تذكرت الفيديو المؤلم الذي قالت فيه انها تريد أرجل حقيقة وليس صناعية، ولكن يبدو الان ان ما تريده ليان هو ان يراها العالم واقفة على قدميها، حتى لو كانوا مزيفات. ارادت ان تقف منتصبة القامة ببسالة وتكو جاهزة لاي شيء قد تواجهه.

تقف ليان في الحديقة الخلفية لمنزل عائلة عساف.

تتمكن منظمة هييل وغيرها من المنظمات التي تقوم بأعمال مشابهة من الحصول على تأشيرات للولايات المتحدة للأطفال كليان بناءً على شروط معينة. ومن هذه الشروط أن الذين تم اجلائهم لأسباب طبية لا يمكنهم تقديم طلب للحصول على لجوء سياسي ويجب ان يغادروا الدولة فور استكمال علاجهم. من منظور الحكومة الامريكية فأن مثل هذه القيود تهدف الى تفادي تحول برامج كـ هييل الى أساليب للتحايل على قوانين الهجرة.

لعدة سنوات كان سوبيسي راضٍ لحد عن هذا التفاهم. وفي معظم الأحيان كان الأطفال الذين تلقوا علاج مختص في الولايات المتحدة قادرين على الحصول على المتابعة التي يحتاجوها في الوطن، حيث كان النظام الصحي في غزة قوي كفاية للتعامل مع هذا. ولكن حصار إسرائيل قد غير هذه المعادلة. بحسب البيانات في شهر أيار/مايو، جرى اكثر من 450 هجوم على المرافق الطبية وتم تدمير او الحاق الضرر بـ 31 من اصل 36 مستشفى في غزة. والمستشفيات التي لا تزال عاملة عليها التركيز على الرعاية الطارئة وإنقاذ الحياة، عندما تتوفر الموارد. في تصريح في شهر حزيران/يونيو، قالت المنسقة الطبية لأطباء بلا حدود في فلسطين، غييميت توما: “إمداداتنا الطبية قليلة للغاية بسبب محدودية تدفق المساعدات التي تسمح السلطات الإسرائيلية بدخولها إلى غزة. وإذا لم نتمكن من جلب الإمدادات الطبية إلى غزة في القريب العاجل، فقد نضطر إلى وقف أنشطتنا الطبية.” وأضافت “لدينا مرضى يعانون من حروق شديدة وكسور مفتوحة، وليس لدينا حتى المسكنات الكافية لتخفيف معاناتهم.”

بسبب الوضع الحالي في غزة، فهناك سؤال فظيع يتبادر للذهن وهو: ماذا لو سافرت ليان هذه المسافة الكبيرة للولايات المتحدة لكي تتعلم المشي مجدداً ثم عادت لوطنها دون ان تجد الرعاية طويلة الأمد المطلوبة متوفرة لها؟ تقول إميلي مايهيو، وهي مؤرخة طبية عسكرية تعمل مع مركز أبحاث الأطفال المصابين في انفجارات، ان ” استمرار الحياة بعد النجاة كشخص مبتور الأطراف معقد للغاية.” واوضحت مايهيو أن أحد زملائها، وهو شخص يعاني من بتر في طرفين مثل ليان، يقوم بفحص درجة الحرارة يومياً وإذا كانت أكثر من 77 (فاهرنهايت – 25 درجة مئوية) يقرر البقاء غي المنزل اليوم التالي لأن الحرارة المرتفعة تجعل استعمال الأطراف الصناعية على مدار يومان متتاليان غير مريح. كما ذكرت مايهيو ان أحد الرياضيين في الاولمبياد الموازية عانى من نمو شعر تحت الجلد في مكان البتر، مما أدى الى التهاب شديد منعه من التدريب لمدة عام كامل.

هؤلاء الأمثلة هم بالغين، اما مبتوري الأطراف الأصغر سناً يعانوا من صعوبات فريدة، ففي العادة يحتاجوا لإجراءات طبية إضافية وأطراف صناعية جديدة تلائم نمو وتغيير أجسادهم. تلبية احتياجات الآلاف من الأطفال مبتوري الأطراف في غزة ستكون مهمة يصعب مواكبتها. وبحسب د.ابوستة، الجراح المقيم في لندن، يجب على اخصائية الأطراف الصناعية حول العالم ان يبدؤا بالتدريب الان لرعاية هؤلاء الأطفال بدلاً من ان ينتظروا حتى انتهاء الحرب. يجب ان يتناوب المختصين بشكل دوري لكي يزوروا غزة لتقديم العلاج، لأنه سيكون شبه مستحيل إجلاء كل الأطفال ليصلوا الاخصائيين. وقال: “يحتاج هؤلاء الأطفال ان يتلقوا العلاج في النظام الصحي الفلسطيني كيفما كان شكله.”

وبالإضافة لهذا، أوضح ابوستة ان غزة ذاتها يجب ان يتم إعادة تصورها لمؤامة جيل كامل من مبتوري الأطراف الصغار بالسن. “يجب ان تصبح مكاناً مختلفاً بما يتعلق بالوصول والاعاقات. المدارس التي يجب إعادة بنائها يجب ان تبدو مختلفة تماماً، وكل ما يتم فعله يجب ان يُبنى على هذا الأساس.” حسبما قال “وهذا يشمل كل التفاصيل الصغيرة.”

 ولكن الان، القنابل لا تزال تتساقط وتوقفها يبدو بعيد المنال. فكرة إعادة بناء غزة في أي وقت قريب بحد ذاتها تعتبر حلم غير ملموس، ناهيك عن القيام بذلك مع أخذ احتياجات الناس كليان بعين الاعتبار. دينا تعلم هذا، وخلال موعد مع طبيب ليان المختص بالتقويم، د.اكمان، عبرت عن قلقها حول كيفية استعمال ليان أطرافها الصناعية في مكان تم تدمير 70 بالمئة من بنيته التحتية المدنية.

قال اكمان: “يمكنها استخدامهم على الاسطح المستوية.”

“ولكن ماذا لو لم يعد هناك أي طرق؟ وماذا بشأن الركام؟” سألت دينا.

“سوف تتلف بسرعة أكبر بكثير،” حسب اكمان، الذي أضاف انه عند حدوث ذلك “عملياً، ستتوقف عن العمل.”

في بعض الأحيان، حين كانت تفكر ليان بالعودة لغزة، كان ذهنها يمتلئ بأكثر الأفكار سوداوية. تقول دينا “لقد سمعتها تبكي وتقول أمور تشبه ‘إذا لم يقتلوني اول مرة، سوف يقتلوني في المرة الثانية.’” 

عندما زرت شيكاغو مع ايمان للمرة الثانية في شهر حزيران/يونيو ، رحبت بنا ليان بابتسامة خافتة بينما كانت تنزل على السلالم في منزل عائلة عساف باستخدام أطرافها الصناعية الجديدة. كانت هذه هي الأطراف التي صممها مالك وستستعملها ليان في لمدة عام او عامان، حتى يتطلب جسمها النامي اطرافاً جديدة. صُممت الأطراف خصيصاً لتتماشى مع لون بشرتها باستخدام مواد تهدف الى محاكاة ملمس جسد الانسان.

لم تكن ليان متحمسة حين أعطاها فريقها الطبي هذه الأطراف قبل اسبوعين من زيارتنا. اخبرتنا مع هز كتفيها “مظهرهم كان مقبولاً،” ولكنها لا تحب استخدامهم للمشي. ويتطلب استخدامهم تعديل وجهد وبعكس الأطراف الصناعية التجريبية، كان عليها استخدامهم طيلة الوقت، وهو أمر مُرهق. وعندما عادت من المستشفى، وضعت الأطراف الصناعية في غرفتها لعدة أيام ولم تستخدمهم. ولكي تشجعها على استخدامهم، خبأت دينا كرسي ليان المتحرك، وإذا ارادت ان تتحرك حول المنزل كان على ليان استخدام أرجلها الجديدة.

خلال جلساتها مع غورينو كانت ليان تنتقل من جهة لأخرى في الغرفة، وأوضحت “الرجل اليُسرى هي ما يزعجني.” هذه الرجل هي التي تحتوي على مفصل ركبة ميكانيكي، ولتفعيل حركة هذا المفصل، كان عليها الضغط على أصابع اقدام الطرف الصناعي. المشكلة بالنسبة لليان كانت التكرار، أي القيام بهذه الحركة في كل خطوة، خاصة ان الطرف الصناعي الاخر لم يتطلب ذلك.

للوقت الحالي اكتفت بجر رجلها اليسرى دون ثني ركبتها. كما حصلت على موافقة الطاقم الطبي بأن ترتدي احذية غير الأحذية التقويمية، وكانت تنتظر وصول زوج احذية مسطحة لونها فضي عبر البريد والذي سيصل في الوقت المناسب قبل الاحتفال بالعيد.

 الموعد الطبي الأخير لليان في شيكاغو كان يوم 3 تموز/يوليو، ومع اقتراب الموعد، ازداد القلق بين سكان منزل عائلة عساف. في بعض الأحيان، حين كانت تفكر ليان بالعودة لغزة، كان ذهنها يمتلئ بأكثر الأفكار سوداوية. تقول دينا “لقد سمعتها تبكي وتقول أمور تشبه ‘إذا لم يقتلوني اول مرة، سوف يقتلوني في المرة الثانية.’”

 خلال حديثي مع سوسيبي، أصر أكثر من مرة أن منظمة هييل لن تُعيد الذين تم اجلائهم الى غزة في ظل الاعمال العدائية المستمرة، ولكن عائلة عساف وليان غير مقتنعين بذلك. ماذا لو لم تترك الحكومة الامريكية أي خيار امام سوسيبي ؟

هناك بعض السيناريوهات المحتملة حول مستقبل ليان ينتهي بها المطاف في دولة ثالثة – قد تكون مصر، حيث تعيش قريبتها التي سافرت معها للحصول على تأشيرة وبقيت هناك، او أوروبا حيث تسكن اختها اريج. ليان قالت انها تشتاق لغزة، وعائلتها واصدقائها، وأنها تريد العودة لها إلا إذا عنى ذلك المخاطرة بحياتها. انها لا تريد ان تشعر بانها عالقة مجدداً.

تقوم بنات عائلة عساف، وليان، وبهاء بشوي حلوى السمورز في الباحة الخلفية لمنزل العائلة.

منذ اللقاء الأول المتزعزع في مطار اوهاير، أصبحت ليان جزءً لا يتجزأ من حياة عائلة عساف، حيث تحضر التجمعات العائلية وتعرفت على أخوات بهاء الكثيرات وأزواجهن وأطفالهن كما تعرف على أسمائهم جميعاً. كما ذهبت الى إجازة مع عائلة عساف لميامي. لا تزال ليان مُتحدية ولكن تعليقاتها اللاذعة تحولت لتعليقات سريعة البديهة. وأصبحت تثق بمستضيفيها لدرجة تمكنها من ان تكشف ضعفها امامهم مما أثلج صدر دينا. وقالت دينا “لديها إيمان مُطلق بنا، انها تثق بنا.” 

واصرت دينا انها ستفعل كل ما بوسعها لمنع عودة ليان لمكان ما هو الا خيال للموطن الذي عرفته سابقاً. “هذا ليس خياراً متاحاً،” قالت دينا “سنوكل محاميين وندفع كل ما يلزم من الأموال.”

في اخر ليلة لنا في شيكاغو، أشعل بهاء ودينا موقد النار الخارجي في الباحة الخلفية، وصنع الفتيات حلوى السمورز قبل ان يتضاءل تركيزهن. وكانت سيرين تتنقل على لوح تزلج الكتروني ذات عجلات مضيئة بسرعة بينما حاولت سارة اقناع أخواتها وليان بأن يتدربوا على رقصة تيك توك معاً. وفي لحظة تركت ليان العكازات التي تستخدمها لتثبيت نفسها وهي تستخدم الأطراف الصناعية وذهبت باتجاه موقد النار، ثم قامت بوضع أطرافها الصناعية على لوح سيرين ونظرت لدينا وبهاء متبسمة.

ثم صاحت دينا عبر الباحة “ابتعدي عن اللوح فوراً يا ليان!”

ثم ضحكت ليان واندفعت عائدة باتجاه الفتيات الاخريات وانضمت لهم ليبدؤوا بالدوران واللهو امام شاشة الهاتف. وفي هذا اللحظة كانت ليان مجرد طفلة ترقص.


© 2024 The Atavist Magazine. Proudly powered by Newspack by Automattic. Privacy Policy. Privacy Notice for California Users.

The post القدوم الى أمريكا appeared first on The Atavist Magazine.

What's Your Reaction?

like

dislike

love

funny

angry

sad

wow